تحتل طبيعة مواد البناء أهميةً كبرى مع دخولنا عصر التنبه إلى التغيرات المناخية، بخاصة بعد تزايد التقارير التي تحمّل النشاط الصناعي ما يقارب 31 في المئة من الإنتاج البشري للغازات الدفيئة، لكن اللافت أن صناعة الإسمنت وحدها تنتج ما يقارب ثلث هذه القيمة، نظراً لأن عملية الإنتاج مرتبطة بشكل حتمي بإنتاج ثاني أكسيد الكربون، وهنا بدأ الحديث عن ضرورة إيجاد طرق جديدة مبتكرة في البناء أو ربما طرق أخرى لإنتاج المادة نفسها.
وفي ضوء ذلك، يروَّج اليوم للآجر الإسمنتي الترابي أو آجر التربة الإسمنتي Soil cement bricks، كبديل مثالي لأسباب يناقشها هذا المقال.
الآجر “الطوب المحترق”
و الآجر (يشار إليه أحياناً باسم الحجر الاصطناعي) عبارة عن وحدة بناء تُصنع بحرق الطوب (صلصال مضاف إليه رمل لتقليل الانكماش وماء)، ثم يُصَب الخليط في قوالب على شكل قطع منفصلة مستطيلة الشكل، وعادةً ما تكون أكبر من الطوب، وينتمي الآجر إلى المواد الخزفية أو السيراميك الذي يغطي مفهومه طيفاً واسعاً من المواد، وتبعاً للتصنيف العلمي تنقسم المواد الخزفية إلى المواد الإنشائية (كالقرميد والآجر)، ومواد العزل الحراري، البورسلان بأنواعه، والمواد التقنية الأخرى على أنواعها.
ويُعد الآجر واحداً من أطول مواد البناء عمراً وأقواها وأكثرها موثوقية، ومن المواد التي أسهمت في خلق طفرة في عالم البناء يوماً ما. وكان إنتاجه قد زاد بشكل كبير مع بداية الثورة الصناعية وصعود بناء المصانع في إنجلترا، ولأسباب تتعلق بالسرعة والاقتصاد أصبح مفضلاً بشكل متزايد في البناء مقارنة بالحجر، وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، نقل التحول الذي حدث في طريقة الإنتاج هذه الصناعة من مرحلة اتباع الطريقة التقليدية (المعروفة بالقولبة اليدوية) إلى الشكل الميكانيكي للإنتاج الضخم، وفي نهاية القرن التاسع عشر، أصبح هناك 130 مصنعاً للآجر في ولاية نيويورك يعمل بها 8000 شخص، وأنتج نحو مليار قطعة سنوياً.
لكن في مطلع القرن العشرين أسهم الطلب المتزايد على تشييد مباني المكاتب الكبيرة إلى زيادة استخدام أنواع الحديد المختلفة، والفولاذ والخرسانة في وقت لاحق، ليقتصر استخدام الآجر إلى حد كبير على المباني الصغيرة والمتوسطة الحجم، وليخصص الفولاذ والخرسانة لبناء الجدران السميكة للأبنية الشاهقة حفاظاً على السلامة الهيكلية لطوابقها.
الآجر الإسمنتي الترابي
وفي حين يعتمد تصنيع كتل السيراميك التقليدية على حرق الطين في الأفران عند درجات حرارة عالية، والتي غالباً ما تُشغَّل بواسطة الوقود الأحفوري غير المتجدد (مثل الفحم أو الغاز الطبيعي)، إضافة إلى أن عملية نقلها تزيد بشكل كبير من بصمتها البيئية (مقياس تأثيرها على البيئة) نظراً لثقل المواد وضخامتها، يُطرح “الآجر الأسمنتي الترابي” كخيار جيد مع بصمة بيئية أقل، نظراً لاستخدامه مواد خاماً محلية، وإلغائه مرحلة الحرق، مع الحفاظ على العديد من الصفات الأساسية الطبيعية للآجر التقليدي.
ويُطلق على “الآجر الإسمنتي الترابي” عادةً اسم الآجر البيئي، وهو عبارة عن مواد إنشاء تتكون من مزيج مناسب من تربة باطنية جافة غير عضوية، والصلصال غير المتمدد، وركام، ورمل أو مادة رابطة كيماوية مثل أسمنت بورتلاند لتثبيت الكتل. وفي حال استخدام الأسمنت البورتلاندي، فإنها تسمى الآجر الأرضي المستقر المضغوط (CSEB).
وتُجمع ألواح الآجر البيئي لتشييد الجدران باستخدام تقنيات البناء القياسية، وتُربط باستخدام نوع من الملاط البسيط المصنوع من نفس خليط التربة من دون ركام، أو باستخدام الملاط الإسمنتي للحصول على قوة أعلى.
عملية التصنيع
وتقتصر عملية تصنيعه على مراحل ثلاث بسيطة إلا أنها دقيقة في الوقت ذاته، وهي التثبيط (الترطيب)، والضغط الميكانيكي، والتجفيف، وتبدأ بتحضير التربة وخلطها بنسبة قليلة من الإسمنت، ثم يضاف الماء تدريجاً حتى الوصول إلى القوام المطلوب، وبعد ذلك يُضغط خليط التربة والإسمنت باستخدام مكبس، لتشكيل الآجر الصلب، ثم تُترك حتى تجف تحت غطاء من القماش أو البلاستيك للحفاظ على رطوبتها.
وعلى مر السنين، تم تطوير العديد من التقنيات لتحسين إنتاج واستخدام هذه المواد، بما في ذلك تحسين اختيارات التربة والنسب المئوية للإسمنت وطرق الضغط وتقنيات المعالجة. ويشكل عامل الانتظار أمراً حاسماً في تقنية البناء هذه، حتى تجف المواد بشكل جيد بعد ضغط الكتل.
وفي هذا السياق، يعد اختيار التربة المناسبة أمراً بالغ الأهمية لتصنيع الآجر بشكل صحيح، وعادةً ما تكون التربة الرملية التي تحتوي على نسبة رمل أكبر من 50 في المئة والطين بين 20 و30 في المئة هي الأكثر ملاءمة. وكذلك يعد تماسك خليط الكتل ودرجة رطوبته عاملاً أساساً في نجاح تصنيعه واستخدامه، لأن الخليط الجاف سينهار في حال ضغطه والخليط شديد الرطوبة لن يصل لدرجة التحجير، لذا تعد مراقبة الجودة أمراً ضرورياً لضمان السلامة الهيكلية للكتل.
مستدام وصديق للبيئة
ويقدم الآجر البيئي سلسلة مزايا مهمة، إذ يمكن صنعه في موقع البناء نفسه من قبل العمالة المحلية نظراً لعدم تطلب تصنيعه الكثير من التقنيات أو المعرفة، وباستخدام تربة الأرض، إذ غالباً ما تتوافر التربة المناسبة في موقع البناء أو بالقرب منه، فلا حاجة لاستيراد مواد باهظة الثمن من أماكن بعيدة أو نقل مواد بناء ثقيلة ومكلفة من مسافات طويلة، مما يعني توفير تكلفة النقل، إضافة إلى تعزيز التنمية الذاتية وخلق فرص عمل، نظراً لكونه ينتج محلياً على أيدي أشخاص عاديين يتم تدريبهم، بخاصة إذا ما علمنا أن تكاليف العمالة يمكن أن تصل إلى 45 في المئة من التكلفة الإجمالية، لذا في معظم الحالات ستكون تكلفة المواد والعمالة والمعدات أرخص مقارنة بالآجر التقليدي، إضافة إلى توفير الوقود والوقت.
وكذلك ينتج الآجر البيئي، باعتباره مادة طبيعية غير سامة، طاقةً أقل بـ 10.7 مرة مع انبعاثات كربون أقل بمقدار 12.5 مرة من الآجر المحترق (مع استثناء محتمل للغازات النبيلة الخاملة كيميائياً)، كما أنه يملك ميزة هامة تطلبها الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية والمناطق السكنية المجاورة للمناطق الصناعية، وهي مقاومة الصوت، علاوةً على مقاومة جدرانها الترابية للحريق والحشرات، وقد أثبتت المنازل المصممة بشكل جيد، قوة ومتانة وقدرة على تحمل الظروف المناخية مثل الأمطار الغزيرة وتساقط الثلوج أو الصقيع من دون التعرض للتلف.
وكالات
Post comments (0)